جهة الشرق تفرض نفسها كوجهة عالمية لأبحاث الحفريات الفقارية

اقتصاد الشرق
تحتضن تربة الجهة الشرقية بالمغرب كنوزا جيولوجية استثنائية تمتد عبر ملايين السنين، وتروي فصولا مطوية من تاريخ الحياة على كوكب الأرض. في هذا السياق، احتضنت كلية العلوم بجامعة محمد الأول بوجدة فعاليات الملتقى الدولي الثالث حول علم الحفريات الفقارية في شمال أفريقيا، الذي شكل محطة علمية بارزة لتسليط الضوء على الثروة الباليونتولوجية للمنطقة وإبراز دورها المحوري في فهم التطور الحيوي بالقارة الأفريقية.
على مدى عدة أيام، اجتمع باحثون وخبراء وطلبة من مختلف أنحاء العالم لاستكشاف المخزون الأحفوري الغني بالشرق المغربي، في لقاء علمي يطمح لتحويل هذا الإرث الجيولوجي إلى رافعة حقيقية للتنمية المستدامة. بعد مسيرة عشرين عاما من التنقيبات الميدانية والاكتشافات المتتالية والتعاون الدولي المثمر، باتت الجهة الشرقية تفرض نفسها كوجهة مرجعية ضمن خريطة الذاكرة الجيولوجية للقارة السمراء.
اختيار وجدة لاحتضان هذا الملتقى الدولي بعد مراكش وورزازات لم يأت اعتباطيا، بل جاء تتويجا للمكانة العلمية المتميزة التي أصبحت تحظى بها الجهة الشرقية في مجال البحث الباليونتولوجي على مستوى شمال أفريقيا. المنطقة تزخر بسجل أحفوري فريد يشهد على مئات الملايين من السنين من التطور الحياتي، ما يجعلها تضاهي المواقع المرجعية الكبرى مثل عين أغلام بالدار البيضاء وغيرها من المواقع الأفريقية الشمالية. إلى جانب توفيره منصة للحوار العلمي بين الباحثين والطلبة، يهدف الملتقى إلى تقييم الحصيلة المعرفية الراهنة والوقوف على آخر الاكتشافات المتعلقة بالحفريات الفقارية بشمال أفريقيا، مع التأكيد على ضرورة تثمين هذا الموروث الطبيعي وحمايته والحفاظ عليه للأجيال القادمة.
تعود أقدم الحفريات الفقارية المكتشفة بالمنطقة إلى بداية العصر الديفوني قبل حوالي أربعمائة مليون سنة. المواقع المكتشفة حديثا بالجهة الشرقية تتميز بحالة حفظ استثنائية، وتفتح آفاقا واعدة لفهم أعمق لبقايا الفقاريات الأولى التي عاشت على الأرض. يوضح حسن أوراغ، رئيس الملتقى، أن هذا الغنى الجيولوجي يجعل من الجهة الشرقية مفتاحا أساسيا لفهم مسار تطور الفقاريات بالتوازي مع التحولات الجغرافية والبيئية الكبرى التي طبعت تاريخ الكرة الأرضية عبر العصور المختلفة.
من جهته، أكد ليونيل كافان، أمين متحف التاريخ الطبيعي بجنيف، على الأهمية البالغة لهذا اللقاء العلمي نظرا للفرص التي يتيحها التواجد في بلد غني بالمواقع الأحفورية المهمة التي تمتد من الحقبة الباليوزية إلى الحقبة السينوزية. هذا التنوع الزمني يمنح الباحثين فرصة نادرة لدراسة السجل الأحفوري عبر فترات جيولوجية ممتدة.
حدد المنظمون أربعة أهداف رئيسية لهذا الملتقى العلمي. يتمثل الهدف الأول في رصد آخر الاكتشافات والتقدم العلمي المحقق في هذا المجال، بينما يركز الهدف الثاني على تعزيز التبادل العلمي والشراكات البحثية بين الباحثين، خاصة بين القارات الأفريقية والأوروبية والأمريكيتين. أما الهدفان الآخران فيتعلقان بتثمين التراث الباليونتولوجي للشرق المغربي وإشراك الباحثين الشباب والطلبة المغاربة في البحث العلمي رفيع المستوى.
بعد يومين حافلين بالمداخلات العلمية والنقاشات حول ثماني محاور موضوعاتية، انتقل المشاركون إلى الميدان في رحلتين استكشافيتين. الأولى قادتهم إلى مغارات الحمام وتافوغالت وزكزل، التي تعتبر كنوزا أركيولوجية وطبيعية حقيقية. أما الرحلة الثانية فكانت على خطى الديناصورات في تندرارة، وهو موقع استثنائي يشهد على عظمة التراث الباليونتولوجي للمنطقة.
مشاركة اثنين وخمسين باحثا قدموا من سويسرا وفرنسا وتونس وهولندا وإسبانيا والبرازيل وأستراليا إلى جانب الأكاديميين المغاربة لتقديم نتائج أبحاثهم الأخيرة، تكتسي أهمية قصوى للبحث العلمي في هذا الحقل المعرفي. هذا الحضور الدولي يسمح بتعزيز شبكة البحث العلمي الدولية وتحفيز مشاريع تعاونية جديدة، حيث من المقرر نشر أعمال الملتقى في مجلة دولية محكمة.
على الصعيد التكويني، يسهم هذا الملتقى في إشراك طلبة الماستر والدكتوراه بجامعة محمد الأول بشكل أكبر في تنظيم اللقاءات العلمية المتخصصة، مع المساهمة في الاعتراف بالإرث الباليونتولوجي المحلي الثري والحفاظ عليه. كما أن التغطية الإعلامية الإيجابية تعزز من جاذبية الجامعة والجهة الشرقية بشكل عام.
الاكتشافات الأخيرة للمواقع الأحفورية الجديدة تؤكد هذه الديناميكية البحثية، حيث تم تحديد أكثر من ثلاثين موقعا باليونتولوجيا وأركيولوجيا في المنطقة، بعضها يتميز بحالة حفظ ممتازة. يضيف أوراغ أن من بين الاكتشافات البارزة هياكل عظمية كاملة لثدييات ضخمة على غرار وحيد القرن في كفايت، إضافة إلى أنواع كبيرة الحجم لم تكن معروفة سابقا في المغرب مثل الثور البري وتمساح تلسينت وغيرها.
التقدم العلمي المحقق والشراكات المنسوجة خلال هذا الملتقى تفتح آفاقا واعدة للبحث المستقبلي في هذا المجال. جامعة محمد الأول تؤكد من خلال هذه المبادرة دورها المركزي في فهم التاريخ التطوري للحياة بالقارة الأفريقية، وتضع الجهة الشرقية على خريطة البحث العلمي العالمي كمنطقة محورية لدراسة الماضي الجيولوجي للأرض.