المندوبية السامية للتخطيط : المغرب نجح في القضاء على الفقر المدقع لكن التفاوتات تتفاقم

اقتصاد الشرق
كشف التقرير الأخير للمندوبية السامية للتخطيط حول الفقر والتفاوتات الاجتماعية في المغرب عن واقع متناقض يعكس تحديات جديدة تواجه التنمية الاجتماعية والاقتصادية في البلاد. فرغم التطور الملحوظ الذي شهده دخل المغاربة خلال العقدين الماضيين، حيث تضاعف أكثر من مرتين، واختفاء شبه كامل للفقر المدقع، إلا أن التفاوتات الاجتماعية عادت للارتفاع بشكل مقلق.
أظهرت المعطيات الرسمية أن معدل الهشاشة الوطني انخفض بشكل كبير من 22.7% سنة 2001 إلى 7.3% سنة 2019، إلا أن هذا المؤشر عرف انتكاسة حادة ليصل إلى 12.9% سنة 2022. تعكس هذه الانتكاسة تراجعاً في مستوى المعيشة نتيجة الصدمات المتتالية التي عرفها المغرب، بدءاً من جائحة كوفيد-19 مروراً بالتضخم وتأثيرات الجفاف المتكرر.
شهدت فترة الألفينات مساراً إيجابياً واعداً، حيث قفز الدخل المتاح الإجمالي للفرد من 11 ألف درهم إلى حوالي 21 ألف درهم بين 2000 و2014، مدفوعاً بنمو اقتصادي بمعدل سنوي متوسط بلغ 5.1%، فيما بقي التضخم منضبطاً عند 1.6%. خلال هذه الفترة، شهد المغاربة تحسناً في قدرتهم الشرائية بحوالي 3.5% سنوياً، مما أعطى انطباعاً بأن تحسن الأوضاع المعيشية أصبح مستداماً.
لكن منذ 2014، بدأ هذا الزخم في التراجع، حيث لم يتجاوز نمو الدخل الفردي 2.3% كمعدل سنوي متوسط حتى 2019. وأتت الجائحة لتقلب الموازين بشكل جذري، حيث انهارت القدرة الشرائية بنسبة 5.4% سنة 2020، في انكماش وصفته المندوبية السامية للتخطيط بأنه “انكماش واضح جداً في الرفاه الاقتصادي المتوسط، لم نشهد مثله منذ عقود”.
تمكن الاقتصاد من النهوض سنة 2021، مما أعاد بعض الراحة للأسر المغربية بزيادة 7.1%، الأمر الذي سمح وفقاً للمندوبية السامية بتجاوز مستوى الدخل الفردي لما قبل الجائحة واستعادة جزئية لمستوى المعيشة الحقيقي. غير أن ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية سنة 2022 محا جزءاً من هذه المكاسب، حيث بلغ التضخم 6.6% وتراجعت القدرة الشرائية من جديد بنسبة 2.5%.
في 2023، وصلت الزيادة الاسمية في الدخول إلى 7.7% مما رفع متوسط الدخل الفردي إلى حوالي 27 ألف درهم، لكن التعافي بقي هشاً حيث لم تتمكن الأسر من استرداد كامل الخسائر المتراكمة. وفي الوقت نفسه، قدمت معركة مكافحة الفقر حصيلة متباينة، فقد نجح المغرب تقريباً في القضاء على الفقر المدقع حيث أقل من 0.3% من السكان يعيشون حالياً تحت العتبة الدولية البالغة 1.9 دولار للفرد يومياً.
كما تراجع الفقر المطلق بشكل مذهل من 15.3% سنة 2001 إلى 1.7% سنة 2019، لكن الصدمات الأخيرة عكست هذا الاتجاه، حيث ارتفع المعدل سنة 2022 إلى 3.9%، أي أكثر من الضعف في ثلاث سنوات. والأكثر إثارة للقلق هو تطور طبيعة الفقر نفسه، فبعد أن كان مركزاً تقليدياً في المناطق القروية، أصبح يتقدم في المدن.
بين 2019 و2022، تضاعف عدد الفقراء الحضريين خمس مرات من 109 آلاف إلى 512 ألف شخص، أي بزيادة سنوية متوسطة تفوق 72.5%. في المناطق القروية، بقيت الزيادة أكثر اعتدالاً من 513 ألفاً إلى 906 آلاف شخص، لكن الفقر يبقى هيكلياً أعلى بحوالي ثلاث مرات مقارنة بالمدن.
تتجلى هذه الهشاشة أيضاً من خلال الارتفاع الحاد للضعف الاقتصادي، حيث بلغ عدد المغاربة المعرضين لخطر السقوط في الفقر النقدي سنة 2022 حوالي 4.75 مليون شخص مقابل 2.6 مليون سنة 2019، بزيادة سنوية متوسطة قدرها 23.6%. تركز المدن الآن ما يقارب نصف هذه الفئة الهشة، حيث تضاعف عدد الحضريين المعرضين للفقر أكثر من مرتين ليصل إلى 2.24 مليون، مما يعكس التأثير غير المتناسب للصدمات الاقتصادية على سكان المدن.
تشير المندوبية السامية للتخطيط إلى أن “هذا التغيير يبرز الأهمية المتزايدة للهشاشة الحضرية وضرورة تكييف السياسات العمومية للاستجابة لهذه التحديات الاجتماعية الجديدة”. وتعكس قضية المساواة بين الجنسين أيضاً هذه التناقضات، حيث يقف مؤشر عدم المساواة بين الجنسين عند 0.438 سنة 2023، وهو مستوى أفضل من قبل عشر سنوات لكنه يبقى غير كافٍ، إذ لا يحتل المغرب سوى المرتبة 113 من أصل 172 دولة.
التقدم واضح في مجال التمدرس حيث أصبح التعليم الابتدائي شبه شامل، وتسجل الفتيات معدل إنجاز في الإعدادي أعلى من الذكور (79% مقابل 70%)، لكن هذه التطورات لا تنعكس على سوق الشغل حيث يبقى معدل نشاط النساء عند 19% مقابل 70% للرجال. رغم الإصلاحات المؤسسية، تبقى الفوارق في الوصول للعمل المؤهل ومناصب اتخاذ القرار كبيرة.
عادت التفاوتات للاتساع من جديد بعد سنوات من التقدم، حيث تحسن مؤشر جيني الذي يقيس التفاوت الإجمالي في توزيع مستوى المعيشة من 40.6% سنة 2001 إلى 38.5% سنة 2019، لكن الاتجاه انعكس بشكل مفاجئ ليصل إلى 40.5% سنة 2022، محواً ما يقارب عشرين سنة من التقدم. تركز النصف الأكثر يساراً حالياً 76.1% من الإنفاق الوطني مقابل 75.1% سنة 2019، بينما تراجعت حصة الـ20% الأقل حظاً إلى 6.7%. اشتداد ارتفاع أسعار المواد الغذائية يعمق هذا الخلل، حيث اضطرت الأسر المتواضعة لتقليل استهلاكها الأساسي، بينما تمكنت الأسر الميسورة من امتصاص الصدمة التضخمية بشكل أفضل.